
نص الفصل الخامس عشر - صاحبه
الستر الرفيع
خلا عرش السلطنة الرسمي بقتل توران شاه،
فاجتمع الأمراء ورجال الدولة يتشاورون، ولم يطل بهم المجلس، واتفقوا على تولية شجر
الدر، وتنصيبها ملكة لمصر، ولكنهم عادوا يتساءلون قائلين: «وكيف تخرج للناس
وتواجههم، وتقول لهم ويقولون لها؟! كانت تصدر الأوامر فننفذها وهي من خلف حجابها،
فماذا تصنع اليوم؟! هل ترضى بالسفور وتلقى الحجاب، أو تحكم من وراء النقاب أو
الستار؟!
الأمر جد سهل، لا تلقى الحجاب، ولا تحكم من
وراء الستار، بل تقيم واحدا من الأمراء بينها وبين الناس، يتحدث باسمها ويبلغهم
أوامرها، وينفذ ما تريد.
فاستحسنوا هذا الرأي، واتفقوا عليه، وتركوا
لها الخيار، تولى هذا الحجاب من تشاء ممن تثق به وترتاح إليه، فاختارت عزالدين
أيبك التركماني الجاشنكير، ولم تختره لأنه أكبر المماليك وأعظمهم وأشجعهم، بل
ليكون في يدها طوع إرادتها، لما رأت فيه من الطاعة ولين العريكة.
وتم الأمر وكتب بذلك إلى أرجاء الدولة، ثم
طار الحمام بالكتب، يبشر بالسلطان الجديد، ففرح الناس باستقرار الأمور، وكانوا في
وجل من الفرقة والانقسام، شاكرين لشجر الدر سرعتها في تلافى الشر، وما كان سينجم
إذا تأخر إقامة سلطان جديد.
احتفلت البلاد كلها بهذه الملكة العاقلة،
وتبادل الناس التهنئات باليعسوب التي ملأ حبها القلوب، ودوت المنابر لصاحبة الستر
الرفيع والحجاب المنيع، ملكة المسلمين شجر الدر أم خليل، ونقش اسمها على العملة،
واجتمعت لها أمور البلاد.
ثم أخذت تفكر في ملك الفرنج المحبوس في دار
ابن لقمان. مقيدا مثل السراق وقطاع الطريق، وفى أولئك الأسرى الذين تعج بهم
الحبوس، وفى دمياط ومن بها من الفرنج، وتعد العدة لمهاجمتهم والقضاء عليهم.
وطار فكرها إلى الشام، وحلق فوق دمشق وحلب،
وسواهما، يستطلع رأى الأيوبيين في توليها الملك، وتذكرت ورد المنى ونور الصباح،
وسوداء بنت الفقيه، مدركة أن هذه العقارب ستتحرك في هذه الساعة بسمها القاتل،
لتثير القلاقل، وتحرض بنى أيوب على رفض الخضوع لها، والعمل سريعا لانتزاع الملك
منها.
كما جعلت تفكر فيما يكون من خليفة بغداد
الذي تتبعه البلاد اسما، وفى خلعته التي لا يتم السلطان لأحد إلا بها، ولا يقر
الناس جميعا بالخضوع لأحد إلا بعدما يمنحها.
ازدحمت تلك الخواطر في رأسها، وجال فكرها
يبحث عن حل لهذه المشكلة المعقدة. وفيما هي في تفكيرها، بلغتها رسالة تأثرت لها،
وبدا في وجهها آثار العطف والرقة والحنان حين قرأتها.
كانت هذه الرسالة من دمياط، بعثتها الملكة
مرجريت امرأة لويس، تتوسل فيها إلى صاحبة الستر الرفيع أن ترحم ضعفها، وتطلق لها
زوجها، وتفرض ما تشاء من مال، وتناجيها بعاطفة المرأة الغريبة التي فقدت الزوج
والأهل والوطن، وعاشت في رعب ينتابها كلما ذرّ صباح وأظلم مساء، وتصف لها غرور
لويس وتسرعه، وطمعه الذي أغواه ودفعه إلى هذا المأزق، ودفع بها معه.
رقت شجر الدر للدموع المنهمرة التي تفيض على
القرطاس، وأذنت للفرنج بأن يبعثوا برسلهم للمفاوضة، مفضلة أن تملا الخزائن الخاوية
بالمال، من فدية لويس وأسراه على أن تقتلهم، قائلة لنفسها: «وماذا تجدى تلك الدماء
ولو جرت أنهارا؟! إنهم لم يعودوا شيئا، وسوف يرحلون بائسين نادمين، فرحين بالنجاة
من الموت المحقق». وأوصت مندوبيها بأن يقبلوا الفدية مشروطة بأربعمائة ألف دينار.
رضى الفرنج بدفع الفدية، فرحين بإطلاق
سراحهم، ثم عادوا يفكرون ليس لديهم ما يدفعونه، فكيف يتصرفون؟!
جعلوا يتوسلون إلى صاحبة الستر الرفيع أن
ترحم عجزهم وتخفف هذه الفدية الثقيلة عنهم، ما دامت قد تعطفت وقبلت تكرما أن
تطلقهم، وعرضوا أن تتفضل بقبول النصف معجلا، والنصف الآخر يؤجل حتى يبلغوا عكا،
بعدما يسلمون دمياط.
وكم كانت فرحتهم حين رضيت صاحبة الستر
الرفيع، وأخذت عليهم المواثيق بالوفاء، وأسرعت الرسل إلى مرجريت بالبشارة، فكفكفت
عبراتها، ولم تعقب، ونهضت مسرعة تجمع المال وتفتش عنه في كل مكان، وتتوسل إلى من
حولها أن يضحوا بآخر ما يملكون، ليفكوا القيد عن رقابهم، حتى جمعت نصف الفدية،
وأرسلته إلى السلطانة بين اليأس والأمل.
ومن الباب الكبير لدار ابن لقمان، إلى
الفناء الفسيح، إلى الطريق، خرج لويس من سجنه يتلفت حوله، غير مصدق، يسأل نفسه:
أهو في حلم أم يقظة؟!
والطواشي صبيح الحارس ينظر إليه في سخرية،
ثم التقى بأخويه وبالأسرى الذين كادوا يطيرون من الفرح، وتقدموا إلى السفن التي
حملتهم إلى معقلهم الأخير، ثم وقفت تنظر إليهم ضاحكة وهم يجرون أرجلهم متعثرين إلى
مراكبهم، ناكسي الرءوس يتقطر الأسى من وجوههم، حتى أقلعت، والمصريون يودعونهم
بالشماتة، منشدين في سخرية، من قول جمال الدين بن مطروح في لويس الحزين ومن معه:
أتيت مصرا تبتغى ملكها *** تحسب أن الزمر يا
طبل ريح
فقل لهم إن أزمعوا عودة *** لأخذ ثأر أو
لفعل قبيح
دار ابن لقمان على حالها (في المنصوره) ***
والقيد باق والطواشي صبيح
كان ذلك النشيد الساخر يتردد على شاطئ
دمياط، وشجر الدر في قصرها تردد هذا النشيد باسمة، وفكرها سابح في المشكلات الأخرى
التي بدأت تطل برءوسها، وبخاصة من جانب الشام.
ملخص الفصل الخامس عشر "صاحبة الستر الرفيع" في نقاط:
**ملخص فصل "صاحبة الستر الرفيع" من قصة "طموح
جارية":**
1. J**اجتماع الأمراء
وتنصيب شجر الدر:**
- بعد
مقتل توران شاه، اجتمع الأمراء واتفقوا على تولية شجر الدر ملكة لمصر.
- تساءلوا
عن كيفية حكمها أمام الناس، واقترحوا أن يتولى أحد الأمراء (حجابًا) التحدث
باسمها.
- اختارت
**عز الدين أيبك التركماني** لهذا الدور بسبب طاعته ولين طبعه، وليس لقوته أو
شجاعته.
2. J**إعلان
الملك والفرح الشعبي:**
- نُشر
خبر تنصيب شجر الدر في جميع أنحاء الدولة، وفرح الناس باستقرار الأوضاع بعد تخوفهم
من الفرقة.
- تمت
مبايعتها رسميًا، ونُقش اسمها على العملة، وأُطلقت عليها ألقاب مثل **"صاحبة
الستر الرفيع"** و**"ملكة المسلمين"**.
3. J**تخطيط شجر الدر
للخطوات التالية:**
- فكرت في
مصير **لويس التاسع** (ملك فرنسا الأسير) والأسرى الفرنجة في دمياط، وقررت التفاوض
لفديتهم بدل قتلهم.
- تذكرت
تهديدات الأيوبيين في الشام (مثل ورد المنى ونور الصباح) الذين قد يرفضون حكم
امرأة ويحرضون ضدها.
- قلقت من
رد فعل **خليفة بغداد**، إذ كان من المتعارف عليه أن الخليفة يمنح الشرعية
للسلاطين عبر "الخلعة".
4. J**رسالة
الملكة مرجريت واستعداد شجر الدر للتفاوض:**
- وصلت
رسالة من **مرجريت** (زوجة لويس) تتوسل فيها لإطلاق سراح زوجها مقابل فدية، واصفة
معاناتها كامرأة غريبة.
- رقّت
شجر الدر لطلبها ووافقت على المفاوضات، مشترطة فدية **400 ألف دينار**.
5. J**تفاصيل
المفاوضات مع الفرنجة:**
- عجز
الفرنجة عن دفع المبلغ الكامل، فطلبوا تأجيل نصفه حتى وصولهم إلى عكا بعد تسليم
دمياط.
- وافقت
شجر الدر على ذلك، وأخذت عليهم المواثيق بالوفاء.
6. J**إطلاق
سراح لويس والأسرى:**
- خرج
لويس من سجنه في **دار ابن لقمان** غير مصدق، بينما كان المصريون يسخرون منه ومن
هزيمته.
- رحل
الأسرى على السفن بينما يردد المصريون نشيد **جمال الدين بن مطروح** الساخر، الذي
هزئ من محاولة لويس غزو مصر.
7. J**تأملات
شجر الدر والمشكلات المستقبلية:**
- بينما
كانت تتابع رحيل الفرنجة، استعدت لمواجهة التحديات القادمة، خاصة من ناحية
**الشام** وتمرد الأيوبيين.
- ظلت
متيقظة للخطر الداخلي والخارجي، رغم انتصارها المؤقت.
J**الخلاصة:**
الفصل يركز على حنكة شجر الدر السياسية والعسكرية،
من خلال تعاملها مع الفرنجة وتخطيطها لمواجهة الأخطار الداخلية (الأيوبيين
والخليفة)، مع إبراز جانبها الإنساني في التعامل مع أسرى الحرب. كما يُظهر تأثرها
بمرجريت كامرأة، رغم كونها خصمًا.
- ثم قرروا أن تجعل واحداً منهم بينها وبين الناس يتحدث باسمها وينفذ أوامرها.
- لأنه يتصف بالطاعة ولين العريكة فضلاً عن شجاعته وكرمه.
- لأنها قضت على الخلافات والفرقة التي كانت ستحدث لولا عقلها الراجح.
2- من تبقى من الفرنج في دمياط وكيفية القضاء عليهم.
3- الشام وما يمكن أن تفعله ورد المني ونور الصباح وسوداء بنت الفقيه.
4- الأمراء الأيوبيين الذين سيسعون لانتزاع الملك منها.
5- خليفة بغداد الذي لا يستقر الأمر لأي حاكم دون موافقته.
- من "مرجريت" زوجة لويس التاسع تتوسل إلى شجرة الدر.
- عرضت دفع أي فدية تطلبها.
- وصفت حالها البائس وغرور زوجها الذي دفعه إلى هذا المأزق.
- قررت السماح للفرنج بإرسال رسلهم للتفاوض.
- قالت: "ما نفع الدماء لو قتلنا لويس ومن معه؟ سيعودون إلى بلادهم يجرون ذيول الخيبة والعار".
- فضلت أن تملأ الخزائن الخاوية من الفدية المدفوعة مقابل الأسرى.
- فرح الفرنج بذلك لكنهم توسلوا لتخفيف المبلغ.
- طلبوا دفع النصف قبل فك الأسر والنصف الآخر بعد العودة إلى عكا وتسليم دمياط.
- جمع الفرنج المال من بعضهم.
- توسلت زوجة لويس لمن حولها لإنقاذ أهلها وزوجها.
- تساءل لويس: "أهو في حلم أم حقيقة؟!"
- خرجوا في ذل وعار يجرون أرجلهم في خيبة.
- خاصة من جانب الشام.
- لم تتسرع في إعلان نفسها ملكة بعد موت زوجها بل أخفت نبأ موته حرصاً على مصلحة البلاد.
- عندما طلب الأمراء عزل توران شاه طلبت منهم التأني حتى يتم النصر.
- كل هذا يدل على كمال عقلها وحكمتها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
مشكور جدا لك ....عادة ما يتم التواصل والرد خلال 48 ساعة